فصل: تفسير الآيات (150- 152):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (147):

{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)}
{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} كلامٌ مبينٌ لمحاسنهم القوليةِ معطوفٌ على ما قبله من الجُمل المبيِّنةِ لمحاسنهم الفعلية، و{قَوْلُهُمْ} بالنصب خبرٌ لكان، واسمُها أن وما بعدها في قوله تعالى: {إِلاَّ أَن قَالُواْ} والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعم الأشياء أي ما كان قولاً لهم عند لقاءِ العدوِ واقتحامِ مضايق الحربِ وإصابةِ ما أصابهم من فنون الشدائدِ والأهوال لشيءٍ من الأشياء إلا أن قالوا {ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} أي صغائرَنا {وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} أي تجاوزْنا الحدَّ في ركوب الكبائرِ، أضافوا الذنوبَ والإسرافَ إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين بُرَآءَ من التفريط في جنب الله تعالى هضماً لهم واستصغاراً لهممهم وإسناداً لما أصابهم إلى أعمالهم وقدّموا الدعاءَ بمغفرتها على ما هو الأهمُّ بحسب الحال من الدعاء بقولهم {وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا} أي في مواطن الحربِ بالتقوية والتأييدِ من عندك أو ثبتْنا على دينك الحقِّ {وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} تقريباً له إلى حيز القَبول، فإن الدعاءَ المقرونَ بالخضوع الصادرَ عن زكاء وطهارةٍ أقربُ إلى الاستجابة، والمعنى لم يزالوا مواضبين على هذا الدعاءِ من غير أن يصدُرَ عنهم قولٌ يوهم شائبةَ الجزَعِ والخَوَرِ والتزلزُلِ في مواقف الحربِ ومراصدِ الدين. وفيه من التعريض بالمنهزمين ما لا يخفى. وقرأ ابنُ كثير وعاصمٌ في رواية عنهما برفع {قَوْلُهُمْ} على أنه الاسمُ والخبرُ أن وما في حيزها أي ما كان قولُهم حينئذ شيئاً من الأشياء إلا هذا القولَ المنبىءَ عن أحسن المحاسنِ، وهذا كما ترى أقعدُ بحسب المعنى وأوفق بمقتضى المقام لما أن الإخبارَ بكون قولِهم المطلقِ خصوصيةَ قولِهم المحكيِّ عنهم مفصلاً كما تفيده قراءتهما أكثرُ إفادةٍ للسامع من الإخبار بكون خصوصيةِ قولِهم المذكورِ قولَهم، لما أن مصبَّ الفائدةِ وموقِعَ البيانِ في الجمل الخبرية هو الخبرُ، فالأحقُّ بالخبرية ما هو أكثرُ إفادةً وأظهرُ دِلالةً على الحدث وأوفرُ اشتمالاً على نِسَب خاصةٍ بعيدةٍ من الوقوع في الخارج وفي ذهن السامعِ. ولا يخفى أن ذلك هاهنا في أنْ مع ما في حيُّزها أتمَّ وأكملَ، وأما ما تفيده الإضافةُ من النسبة المطلقةِ الإجماليةِ فحيث كانت سهلةَ الحصولِ خارجاً وذِهناً كان حقُّها أن تلاحَظَ ملاحظةً إجماليةً وتُجعلَ عنواناً للموضوع، لا مقصوداً بالذات في باب البيانِ وإنما اختار الجمهورُ ما اختاره لقاعدة صناعيةٍ هي أنه إذا اجتمع معرفتان فالأعرفُ منهما أحقُّ بالاسمية، ولا ريب في أعرفية {أَن قَالُواْ} لدلالته على جهة النسبةِ وزمانِ الحدثِ ولأنه يشبه المضمرَ من حيث أنه لا يوصف ولا يوصف به، وقولَهم مضافٌ إلى مضمر فهو بمنزلة العَلَم فتأمل.

.تفسير الآيات (148- 149):

{فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)}
{فاتاهم الله} بسبب دعائِهم ذلك {ثَوَابَ الدنيا} أي النصرَ والغنيمةَ والعزَّ والذكرَ الجميلَ {وَحُسْنَ ثَوَابِ الاخرة} الحسنُ وهو الجنةُ والنعيمُ المخلّدُ، وتخصيصُ وصفِ الحسن به للإيذان بفضله ومزيتِه وأنه المعتدُّ به عنده تعالى {والله يُحِبُّ المحسنين} تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله، فإن محبةَ الله تعالى للعبد عبارةٌ عن رضاه عنه وإرادةِ الخيرِ به، فهي مبدأٌ لكل سعادة، واللامُ إما للعهد، وإنما وُضع المُظهرُ موضِعَ ضميرِ المعهودين للإشعار بأن ما حُكيَ عنهم من الأفعال والأقوالِ من باب الإحسانِ، وإما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً وهذا أنسبُ بمقام ترغيبِ المؤمنين في تحصيل ما حُكي عنهم من المناقب الجليلة.
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ} شروعٌ في زجرهم عن متابعة الكفارِ ببيان استتباعِها لخسران الدنيا والآخرة إثرَ ترغيبِهم في الاقتداء بأنصار الأنبياءِ ببيان إفضائه إلى فوزهم بسعادة الدارين، وتصديرُ الخطابِ بالنداء والتنبيهِ لإظهار الاعتناءِ بما في حيِّزه، ووصفُهم بالإيمان لتذكير حالِهم وتثبيتِهم عليها بإظهار مباينتِها لحال أعدائِهم كما أن وصفَ المنافقين بالكفر في قوله تعالى: {إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ} لذلك قصداً إلى مزيد التنفيرِ عنهم والتحذيرِ عن طاعتهم، قال علي رضي الله عنه: نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمةِ: ارجِعوا إلى إخوانكم وادخُلوا في دينهم، فوقوعُ قوله تعالى: {يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم} جواباً للشرط مع كونِه في قوة أن يقال: إن تُطيعوهم في قولهم: ارجِعوا إلى إخوانكم وادخُلوا في دينهم يُدخِلونكم في دينهم باعتبار كونه تمهيداً لقوله تعالى: {فَتَنقَلِبُواْ خاسرين} أي للدنيا والآخرة غيرَ فائزين بشيء منهما واقعين في العذاب الخالدِ على أن الارتدادَ على العقِب عَلَمٌ على انتكاس الأمرِ ومثَلٌ في الحور بعد الكور وقيل: المراد بهم اليهودُ والنصارى حيث كانوا يستَغْنونهم ويُوقِعون لهم الشُّبَه في الدين ويقولون: لو كان نبياً حقاً لما غُلب ولمَا أصابه وأصحابَه ما أصابهم وإنما هو رجلٌ حالُه كحال غيرِه من الناس يوماً عليه ويوماً له، وقيل: أبو سفيان وأصحابُه والمرادُ بطاعتهم استئمانُهم والاستكانةُ لهم، وقيل: الموصولُ على عمومه والمعنى نهيُ المؤمنين عن طاعتهم في أمر من الأمور حتى لا يستجرّوهم إلى الارتداد عن الدين فلا حاجةَ على هذه التقاديرِ إلى ما مر من البيان.

.تفسير الآيات (150- 152):

{بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)}
{بَلِ الله مولاكم} إضرابٌ عما يُفهم من مضمون الشرطيةِ كأنه قيل: فليسوا أنصارَكم حتى تطيعوهم بل الله ناصرُكم لا غيرُه فأطيعوه واستعينوا به عن موالاتهم، وقرئ بالنصب كأنه قيل: فلا تطيعوهم بل أطيعوا الله و{مولاكم} نُصب على أنه صفةٌ له {وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} فخُصّوه بالطاعة والاستعانة {سَنُلْقِى} بنون العظمةِ على طريقة الالتفاتِ جرياً على سَنن الكبرياءِ لتقوية المهابةِ، وقرئ بالياء والسين لتأكيد الإلقاءِ {فِى قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} بسكون العين وقرئ بضمها على الأصل وهو ما قُذف في قلوبهم من الخوف يوم أحُد حتى تركوا القتالَ ورجعوا من غير سببٍ، ولهم القوةُ والغلبة، وقيل: ذهبوا إلى مكةَ فلما كانوا ببعض الطريقِ قالوا: ما صنعنا شيئاً قتلنا منهم ثم تركناهم ونحن قاهرون ارجِعوا فاستأصِلوهم فعند ذلك ألقى الله تعالى في قلوبهم الرُّعْبَ فأمسكوا. فلابد من كون نزولِ الآيةِ في تضاعيف الحربِ أو عَقيب انقضائِها، وقيل: هو ما أُلقيَ في قلوبهم من الرعب يومَ الأحزاب {بِمَا أَشْرَكُواْ بالله} متعلقٌ بنُلقي دون الرعب، وما مصدرية أي بسبب إشراكِهم به تعالى فإنه من موجبات خِذْلانِهم ونصرِ المؤمنين عليهم، وكلاهما من دواعي الرعب {مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ} أي بإشراكه {سلطانا} أي حجةً سمِّيت به لوضوحها وإنارتها أو لقوّتها أو لحِدّتها ونفوذِها، وذكرُ عدمِ تنزيلِها مع استحالة تحققِها في نفسها من قبيل قوله:
ولا ترَى الضبَّ بها ينجحِرُ

أي لا ضبَّ ولا انجحارَ، وفيه إيذانٌ بأن المتَّبعَ في الباب هو البرهانُ السماويُّ دون الآراءِ والأهواءِ الباطلة.
{وَمَأْوَاهُمُ} بيانٌ لأحوالهم في الآخرة إثرَ بيانِ أحوالِهم في الدنيا وهي الرعبُ أي ما يأوون إليه في الآخرة {النار} لا ملجأَ لهم غيرَها {وَبِئْسَ مثوى الظالمين} أي مثواهم وإنما وُضع موضعَه المظهرُ المذكورُ للتغليظ والتعليلِ والإشعارِ بأنهم في إشراكهم ظالمون واضعون للشيء في غير موضعِه، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي بئس مثوى الظالمين النارُ وفي جعلها مثواهم بعد جعلِها مأواهم نوعُ رمزٍ إلى خلودهم فيها فإن المثوى مكانُ الإقامةِ المنبئة عن المُكثْ وأما المأوى فهو المكانُ الذي يأوي إليه الإنسان {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} نُصب على أنه مفعولٌ ثانٍ لصَدَق صريحاً، وقيل: بنزع الجارِّ أي في وعده نزلت حين قال ناسٌ من المؤمنين عند رجوعِهم إلى المدينة: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله تعالى بالنصر؟ وهو ما وعدهم على لسان نبيِّه عليه السلامُ من النصر حيث قال للرماة: «لا تبرَحوا مكانَكم فلن نزال غالبين ما ثبتُّم مكانَكم» وفي رواية أخرى: «لا تبرَحوا عن هذا المكانِ فإنا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان» وقد كان كذلك فإن المشركين لما أقبلوا جعل الرماةُ يرشُقونهم والباقون يضرِبونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم يقتُلونهم قتلاً ذريعاً وذلك قوله تعالى: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} أي تقتُلونهم قتلاً كثيراً فاشياً، من حسَّه إذا أبطل حِسَّه وهو ظرفٌ لصدقكم وقوله تعالى: {بِإِذْنِهِ} أي بتيسيره وتوفيقِه لتحقيق أنّ قتلَهم بما وعدهم الله تعالى بالنصر، وقيل: هو ما وعدهم بقوله تعالى: {إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} الآية، وقد مر تحقيقُ أن ذلك كان يومَ بدر كيف لا والموعودُ بما ذكر إمدادُه عز وجل بإنزال الملائكةِ عليهم السلام، وتقييدُ صدقِ وعدِه تعالى بوقت قتلِهم بإذنه تعالى صريحٌ في أن الموعودَ هو النصرُ المعنويُّ والتيسيرُ، لا الإمدادُ بالملائكة، وقيل: هو ما وعده تعالى بقوله: {سَنُلْقِى} الخ، وأنت خبيرٌ بأن إلقاءَ الرعبِ كان عند تركِهم القتالَ ورجوعِهم من غير سبب أو بعد ذلك في الطريق على اختلاف (في) الروايتين وأياً ما كان فلا سبيل إلى كونه مُغياً بقوله تعالى: {حتى إِذَا فَشِلْتُمْ} أي جبُنتم وضعُف رأيُكم أو مِلتم إلى الغنيمة، فإن الحرصَ من ضعف القلب {وتنازعتم فِي الامر} فقال بعضُ الرماةِ حين انهزم المشركون وولَّوْا هاربين والمسلمون على أعقابهم قتلاً وضرباً: فما موقفُنا هاهنا بعد هذا؟ وقال أميرُهم عبدُ اللَّه بنُ جبيرٍ رضي الله عنه: لا نخالف أمرَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فثبت مكانه في نفر دون العشرةِ من أصحابه ونفَرَ الباقون للنهب وذلك قوله تعالى: {وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} أي من الظفر والغنيمةِ وانهزامِ العدوِّ، فلما رأى المشركون ذلك حَملوا عليهم من قبل الشِّعْبِ وقتلوا أميرَ الرماةِ ومن معه من أصحابه حسبما فُصِّل في تفسير قولِه تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن} وجوابُ إذا محذوفٌ وهو منعُكم نصْرَه، وقيل: امتَحَنكم، ويردُّه جعلُ الابتلاءِ غايةً للصَّرْف المترتِّبِ على منع النصرِ، وقيل: هو: انقسمتم إلى قسمين كما ينبىء عنه قوله تعالى: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} وهم الذين تركوا المركزَ وأقبلوا على النهب {وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاخرة} وهم الذين ثبتوا مكانَهم حتى نالوا شرفَ الشهادة.
هذا على تقدير كونِ إذا شرطيةً وحتى ابتدائيةً داخلةً على الجملة الشرطيةِ، وقيل: {إِذَا} اسمٌ كما في قولهم: إذا يقوم زيد يقوم عمرو، و{حتى} حرفُ جرٍ بمعنى إلى المتعلقة بقوله تعالى: {صَدَقَكُمُ} باعتبار تضمُّنِه لمعنى النصرِ كأنه قيل: لقد نصركم الله إلى وقت فشلِكم وتنازُعِكم الخ، وعلى هذا فقولُه تعالى: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} حتى حالت الحالُ ودالت الدولةُ، وفيه من اللطف بالمسلمين ما لا يخفى، {لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي يعاملَكم معاملةَ من يمتحنكم بالمصائب ليَظهرَ ثباتُكم على الإيمان عندها {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} تفضّلاً، ولِمَا علم من ندمكم على المخالفة {والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين} تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله ومؤْذِنٌ بأن ذلك العفوَ بطريق التفضّلِ والإحسانِ لا بطريق الوجوبِ عليه، أي شأنُه أن يتفضلَ عليهم بالعفو أو هو متفضلٌ عليهم في جميع الأحوالِ أديل لهم أو أُديل عليهم، إذ الابتلاءُ أيضاً رحمةٌ، والتنكيرُ للتفخيم، والمرادُ بالمؤمنين إما المخاطبون، والإظهارُ في موقع الإضمارِ للتشريفِ والإشعارِ بعلة الحُكم، وإما الجنس وهم داخلون في الحكم دخولاً أولياً.

.تفسير الآيات (153- 154):

{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)}
{إِذْ تُصْعِدُونَ} متعلق بصَرَفكم أو بقوله تعالى: {لِيَبْتَلِيَكُمْ} أو بمقدّر كما ذكروا. والإصعادُ الذهابُ والإبعادُ في الأرض، وقرئ بثلاثي أي في الجبل، وقرئ {تَصَعَّدون} من التفعل بطرح إحدى التاءين وقرئ {تصعدون} من يصعدون بالالتفات إلى الغيبة {وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} أي لا تلتفتون إلى ما وراءكم ولا يقف واحدٌ منكم لواحد، وقرئ {تلْوُنَ} بواو واحدة بقلب الواوِ المضمومةِ همزةً وحذفِها تخفيفاً، وقرئ {يلوون} كيصعدون {والرسول يَدْعُوكُمْ} كان عليه الصلاة والسلام يدعوهم: «إليَّ عبادَ الله أنا رسولُ الله من يكُرُّ فله الجنةُ» وإيرادُه عليه السلام بعنوان الرسالة للإيذان بأن دعوتَه عليه السلام كانت بطريق الرسالةِ من جهته سبحانه إشباعاً في توبيخ المنهزمين {فِى أُخْرَاكُمْ} في ساقتكم وجماعتِكم الأخرى {فأثابكم} عطفٌ على صرفَكم أي فجازاكم الله تعالى بما صنعتم {غَمّاً} موصولاً {بِغَمّ} من الاغتمام بالقتل والجرْحِ وظَفَرِ المشركين والإرجافِ بقتل الرسولِ صلى الله عليه وسلم وفوْتِ الغنيمة، فالتنكيرُ للتكثير أو غماً بمقابلة غمَ أذَقْتموه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعِصيانكم له {لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أصابكم} أي لتتمرَّنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزَنوا على نفعٍ فاتَ أو ضُرَ آتٍ، وقيل: لا زائدة والمعنى لتتأسفوا على ما فاتكم من الظفَر والغنيمةِ وعلى ما أصابكم من الجراح والهزيمةِ عقوبةً لكم. وقيل: الضميرُ في أثابكم للرسول صلى الله عليه وسلم أي واساكم في الاغتنام فاغتمّ بما نزل عليكم كما اغتممتم بما نزل عليه، ولم يُثرِّبْكم على عِصيانكم تسليةً لكم وتنفيساً لكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر وما أصابكم من الجراح وغيرِ ذلك {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي عالمٌ بأعمالكم وبما أردتم بها.
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ} عطفٌ على قوله تعالى: {فأثابكم}، والخطابُ للمؤمنين حقاً {مّن بَعْدِ الغم} أي الغمِّ المذكور، والتصريحُ بتأخُّر الإنزالِ عنه مع دَلالة {ثُمَّ} عليه وعلى تراخيه عنه لزيادة البيانِ وتذكيرِ عِظَم النعمةِ كما في قوله تعالى: {ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ} الآية، {ءامِنَةً} أي أمناً نُصب على المفعولية، وقوله تعالى: {نُّعَاساً} بدلٌ منها أو عطفُ بيانٍ وقيل: مفعولٌ له أو هو المفعول وأمنةً حالٌ منه متقدمةٌ عليه أو مفعول له حالٌ من المخاطبين على تقدير مضافٍ أي ذو أمنةٍ أو على أنه جمعُ آمن كبارّ وبرَرَة وقرئ بسكون الميم كأنها مرّةٌ من الأمنِ، وتقديمُ الظرفين على المفعول الصريحِ لِمَا مر غيرَ مرةٍ من الاعتناء بشأن المقدّمِ والتشويقِ إلى المؤخر، وتخصيصُ الخوفِ من بين فنونِ الغمِّ بالإزالة لأنه المهمُّ عندهم حينئذ لما أن المشركين لما انصرفوا كانوا يتوّعدون المسلمين بالرجوع فلم يأمنوا كرَّتَهم وكانوا تحت الحَجَفِ متأهّبين للقتال فأنزل الله تعالى عليهم الأمنةَ فأخذهم النعاسُ.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمنَّهم يومئذ بنعاس تغشّاهم بعد خوفٍ وإنما ينعَسُ من أمِنَ، والخائفُ لا ينام. وقال الزبير رضي الله عنه: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوفُ فأنزل الله علينا النومَ والله إني أسمع قولَ مُعتبِ بنِ قشير والنعاسُ يغشاني ما أسمعه إلا كالحُلُم يقول: لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قُتلنا هاهنا. وقال أبو طلحةَ رضي الله عنه: «رفعتُ رأسي يومَ أحُدٍ فجعلتُ لا أرى أحداً من القوم إلا وهو يَميدُ تحت حَجَفَتِه من النعاس». قال: «وكنتُ ممن أُلقِيَ عليه النعاسُ يومئذ فكان السيفُ يسقُط من يدي فآخذُه ثم يسقُط السَّوْطُ من يدي فآخُذه»، وفيه دِلالةٌ على أن من المؤمنين من لم يُلْقَ عليه النعاسُ كما ينبىء عنه قوله عز وجل: {يغشى طَائِفَةً مّنْكُمْ} قال ابن عباس: هم المهاجرون وعامةُ الأنصار ولا يقدَح ذلك في عموم الإنزالِ للكل، والجملةُ في محل النصب على أنها صفةٌ لنعاساً، وقرئ بالتاء على أنها صفة لأمَنةً، وفيه أن الصفةَ حقُّها أن تتقدم على البدل وعطفِ البيان وأن لا يُفصل بينها وبين الموصوفِ بالمفعول له، وأن المعهودَ أن يحدُث عن البدل دون المُبدلِ منه {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} أي أوقعتهم في الهموم والأحزانِ، أو ما بهم إلا همُّ أنفسِهم وقصدُ خلاصِها، من قولهم: همّني الشيءُ أي كان من هِمّتي وقصدي، والقصرُ مستفادٌ بمعونة المقامِ، {وَطَائِفَةٌ} مبتدأٌ وما بعدها إما خبرُها، وإنما جاز ذلك مع كونها نكرةً لاعتمادها على واو الحال كما في قوله:
سرينا ونجمٌ قد أضاء فمذ بدا ** محياكِ أخفى ضوؤُه كلَّ شارقِ

أو لوقوعها في موضع التفصيل كما في قوله:
إذا ما بكى من خلفها انصرَفَتْ له ** بشِقَ وتحتي شِقُّها لم يُحَوَّلِ

وإما صفتُها والخبرُ محذوفٌ أي ومعكم طائفةٌ أو وهناك طائفةٌ، وقيل: تقديره ومنكم طائفةٌ، وفيه أنه يقتضي دخولَ المنافقين في الخطاب بإنزال الأمنةِ وأياً ما كان فالجملةُ إما حاليةٌ مبيِّنةٌ لفظاعة الهولِ مؤكِّدةٌ لعِظَم النعمةِ في الخلاص عنه كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} وإما مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيان حالِ المنافقين وقوله عز وجل: {يَظُنُّونَ بالله} حال من ضمير أهمتْهم أو من طائفةٌ لتخصصها بالصفة، أو صفةٌ أخرى لها أو خبرٌ بعد خبرٍ أو استئنافٌ مبينٌ لما قبله وقوله تعالى: {غَيْرَ الحق} في حُكم المصدرِ أي يظنون به تعالى غيرَ الظنِّ الحقِّ الذي يجب أن يُظنَّ به سبحانه، وقوله تعالى: {ظَنَّ الجاهلية} بدلٌ منه وهو الظنُّ المختصُّ بالملة الجاهليةِ والإضافة كما في حاتم الجودِ ورجلِ صِدْقٍ وقوله تعالى: {يَقُولُونَ} بدلٌ من يظنون لما أن مسألتَهم كانت صادرةً عن الظن أي يقولون لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم على صورة الاسترشاد: {هَل لَّنَا مِنَ الامر} أي من أمر الله ووعدِه من النصر والظفَرِ {مِن شَىْء} أي من نصيب قط أو هل لنا من التدبير من شيء؟ وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الامر كُلَّهُ للَّهِ} أي إن الغلبةَ بالآخرة لله تعالى ولأوليائه فإن حزبَ الله هم الغالبون أو إن التدبيرَ كلَّه لله فإنه تعالى قد دبر الأمرَ كما جرى في سابق قضائِه فلا مردَّ له وقرئ {كلُّه} بالرفع على الابتداء وقوله تعالى: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم} أي يُضمرون فيها أو يقولون فيما بينهم بطريق الخُفية {مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ} استئنافٌ أو حال من ضمير يقولون وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الامر} الخ، اعتراضٌ بين الحال وصاحبِها أي يقولون ما يقولون مُظْهِرين أنهم مسترشِدون طالبون للنصر مُبْطنين الإنكارَ والتكذيبَ، وقوله تعالى: {يَقُولُونَ} استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل: أيَّ شيء يخفون؟ فقيل: يحدثون أنفسَهم أو يقول بعضُهم لبعض فيما بينهم خُفيةً: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الامر شَىْء} كما وعد محمد عليه الصلاة والسلام من أن الغلبةَ لله تعالى ولأوليائه وأن الأمرَ كلَّه لله أو لو كان لنا من التدبير والرأيِّ شيءٌ {مَّا قُتِلْنَا هاهنا} أي ما غُلبنا أو ما قُتل مَنْ قُتل منا في هذه المعركةِ على أن النفيَ راجعٌ إلى نفس القتلِ لا إلا وقوعه فيها فقط، ولما برحنا من منازلنا كما رآه ابنُ أُبي ويؤيده تعيينُ مكانِ القتلِ وكذا قوله تعالى: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} أي لو لم تخرُجوا إلى أُحُد وقعدتم بالمدينة كما تقولون {لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل} أي في اللوح المحفوظِ بسبب من الأسباب الداعيةِ إلى البروز {إلى مَضَاجِعِهِمْ} إلى مصارعهم التي قدَّر الله تعالى قتلَهم فيها وقُتلوا هنالك البتةَ ولم تنفَعِ العزيمةُ على الإقامة بالمدينة قطعاً، فإن قضاءَ الله تعالى لا يُرَدّ وحكمُه لا يُعقَّب، وفيه مبالغةٌ في رد مقالتِهم الباطلةِ حيث لم يُقتَصرْ على تحقيق نفسِ القتلِ كما في قوله عز وجل: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت} بل عُيِّن مكانُه أيضاً، ولا ريب في تعيُّن زمانِه أيضاً لقوله تعالى: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} رُوي أن ملك الموتِ حضر مجلسَ سليمانَ عليه الصلاة والسلام فنظر إلى رجل من أهل المجلسِ نَظرةً هائلة فلما قام قال الرجلُ: من هذا؟ فقال سليمانُ عليه السلام: ملكُ الموتِ، قال: أرسِلْني مع الريح إلى عالم آخَرَ فإني رأيتُ منه مرأىً هائلاً فأمرها عليه السلام فألقتْه في قُطر سحيقٍ من أقطار العالم فما لبث أن عاد ملكُ الموتِ إلى سليمانَ عليه السلام فقال: كنت أُمِرْتُ بقبض روحِ ذلك الرجلِ في هذه الساعةِ في أرض كذا فلما وجدتُه في مجلسك قلت: متى يصِلُ هذا إليها وقد أرسلتَه بالريح إلى ذلك المكانِ فوجدتُه هناك فقُضي أمرُ الله عز وجل في زمانه ومكانِه من غير إخلالٍ بشيء من ذلك، وقرئ {كَتَبَ} على البناء للفاعل ونصبِ القتلُ، وقرئ {كُتب عليهم القتالُ} وقرئ {لبُرِّز} بالتشديد على البناء للمفعول {وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ} أي ليعاملَكم معاملةَ مَنْ يبتلي ما في صدوركم من الإخلاص والنفاقِ ويُظهرَ ما فيها من السرائر، وهو علةٌ لفعل مقدرٍ قبلها معطوفةٌ على علل لها أخرى مطويةٍ للإيذان بكثرتها، كأنه قيل: فعلَ ما فعل لمصالحَ جمةٍ وليبتليَ الخ، وجعلُها عِللاً لبَرَز يأباه الذوقُ السليمُ فإن مقتضى المقامِ بيانُ حكمةِ ما وقع يومئذ من الشدة والهولِ لا بيانُ حِكمةِ البروزِ المفروضِ، أو لفعلٍ مقدرٍ بعدها أي وللابتلاء المذكورِ فعلَ ما فعل، لا لعدم العنايةِ بأمر المؤمنين ونحو ذلك، وتقديرُ الفعل مقدماً خالٍ عن هذه المزية.
{وَلِيُمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} من مخفيات الأمورِ ويكشِفَها أو يُخلِّصَها من الوساوس {والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي السرائر والضمائرِ الخفيةِ التي لا تكاد تفارقُ الصدورَ بل تلازمها وتصاحبُها، والجملةُ إما اعتراضٌ للتنبيه على أن الله تعالى غنيٌ عن الابتلاء، وإنما يُبرِز صورةَ الابتلاءِ لتمرين المؤمنين وإظهارِ حالِ المنافقين، أو حالٌ من متعلَّق الفعلين أي فَعل ما فَعل للابتلاء والتمحيصِ والحال أنه تعالى غنيٌ عنهما مُحيطٌ بخفيات الأمورِ، وفيه وعدٌ ووعيد.